فصل: تفسير الآيات (210- 212):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (192- 195):

{وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)}.
يقول تعالى مخبرًا عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد، صلوات الله وسلامه عليه: {وإنه} أي: القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة في قوله: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} الآية. {لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي: أنزله الله عليك وأوحاه إليك.
{نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ}: وهو جبريل، عليه السلام، قاله غير واحد من السلف: ابن عباس، ومحمد بن كعب، وقتادة، وعطية العوفي، والسدي، والضحاك، والزهري، وابن جريج. وهذا ما لا نزاع فيه.
قال الزهري: وهذه كقوله {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نزلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} الآية [البقرة: 97].
وقال مجاهد: من كلمه الروح الأمين لا تأكله الأرض.
{عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أي: نزل به ملك كريم أمين، ذو مكانة عند الله، مطاع في الملأ الأعلى، {عَلَى قَلْبِكَ} يا محمد، سالمًا من الدنس والزيادة والنقص؛ {لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} أي: لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه، وتبشر به المؤمنين المتبعين له.
وقوله: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} أي: هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أنزلناه بلسانك العربي الفصيح الكامل الشامل، ليكون بَيِّنًا واضحًا ظاهرًا، قاطعًا للعذر، مقيمًا للحجة، دليلا إلى المحجة.
قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن أبي بكر العَتَكيّ، حدثنا عباد بن عباد الُمهَلَّبي، عن موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبيه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في يوم دَجْن إذ قال لهم: «كيف ترون بواسقها؟». قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها. قال: «فكيف ترون قواعدها؟». قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال: «فكيف ترون جَوْنَها؟». قالوا: ما أحسنه وأشد سواده. قال: «فكيف ترون رحاها استدارت؟». قالوا: ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: «فكيف ترون برقها، أومَيض أم خَفْو أم يَشُق شَقّا؟». قالوا: بل يشق شقًا. قال: «الحياء الحياء إن شاء الله». قال: فقال رجل: يا رسول الله، بأبي وأمي ما أفصحك، ما رأيت الذي هو أعربُ منك. قال: فقال: «حق لي، وإنما أنزل القرآن بلساني، والله يقول: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ}».
وقال سفيان الثوري: لم ينزل وحي إلا بالعربية، ثم تَرْجم كل نبي لقومه، واللسان يوم القيامة بالسريانية، فَمَنْ دخل الجنة تكلم بالعربية. رواه ابن أبي حاتم.

.تفسير الآيات (196- 199):

{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)}.
يقول تعالى: وإنَّ ذِكْر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم، الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه، كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك، حتى قام آخرهم خطيبًا في ملئه بالبشارة بأحمد: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]، والزبر هاهنا هي الكتب وهي جمع زَبُور، وكذلك الزبور، وهو كتاب داود.
وقال تعالى: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] أي: مكتوب عليهم في صحف الملائكة.
ثم قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي: أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك: أن العلماء من بني إسرائيل يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها؟ والمراد: العدول منهم، الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته، كما أخبر بذلك مَنْ آمن منهم كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، عَمَّنْ أدركه منهم ومَنْ شاكلهم.
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ} الآية [الأعراف: 157].
ثم قال تعالى مخبرًا عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن؛ أنه لو أنزله على رجل من الأعاجم، مِمَّنْ لا يدري من العربية كلمة، وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته، لا يؤمنون به؛ ولهذا قال: {وَلَوْ نزلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأعْجَمِينَ. فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ}، كما أخبر عنهم في الآية الأخرى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ. لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر: 14، 15] وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نزلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الأنعام: 111]، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} [يونس: 96، 97].

.تفسير الآيات (200- 209):

{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الألِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)}.
يقول تعالى: كذلك سلكنا التكذيب والكفر والجحود والعناد، أي: أدخلناه في قلوب المجرمين.
{لا يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: بالحق {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ} أي: حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم اللعنة ولهم سوء الدار.
{فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي: عذاب الله بغتة، {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ}؟ أي: يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلا ليعملوا من فزعهم بطاعة الله، كما قال تعالى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44]، فكل ظالم وفاجر وكافر إذا شاهد عقوبته، ندم ندمًا شديدًا هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [يونس: 88، 89]، فأثرت هذه الدعوة في فرعون، فما آمن حتى رأى العذاب الأليم، {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ. آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس: 90، 91]، وقال: {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 84، 85] الآية.
وقوله تعالى: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}: إنكار عليهم، وتهديد لهم؛ فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيبًا واستبعادًا: {ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت: 29]، كما قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} الآية. [العنكبوت: 53].
ثم قال: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} أي: لو أخرناهم وأنظرناهم، وأملينا لهم برهة من الزمان وحينًا من الدهر وإن طال، ثم جاءهم أمر الله، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعم، {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46]، وقال تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ} [البقرة: 96]، وقال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11]؛ ولهذا قال: {مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ}.
وفي الحديث الصحيح: «يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل رأيت خيرًا قط؟ هل رأيت نعيمًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب. ويؤتى بأشد الناس بؤسًا كان في الدنيا، فيصبغ في الجنة صبغة، ثم يقال له: هل رأيت بؤسًا قط؟ فيقول: لا والله يا رب» أي: ما كأن شيئًا كان؛ ولهذا كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه يتمثل بهذا البيت:
كأنَّك لَمْ تُوتِر من الدّهْر لَيْلَةً ** إذا أنْتَ أدْرَكْتَ الذي كنتَ تَطْلُبُ

ثم قال الله تعالى مخبرًا عن عدله في خلقه: أنَّه ما أهلك أمة من الأمم إلا بعد الإعذار إليهم، والإنذار لهم وبعثة الرسل إليهم وقيام الحجج عليهم؛ ولهذا قال: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلا لَهَا مُنْذِرُونَ. ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ} كما قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15]، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].

.تفسير الآيات (210- 212):

{وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)}
يقول تعالى مخبرًا عن كتابه العزيز، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد: أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله، {وَمَا تَنزلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ}. ثم ذكر أنه يمتنع عليهم من ثلاثة أوجه، أحدها: أنه ما ينبغي لهم، أي: ليس هو من بُغْيتهم ولا من طلبتهم؛ لأن من سجاياهم الفساد وإضلال العباد، وهذا فيه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونور وهدى وبرهان عظيم، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة؛ ولهذا قال تعالى: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ}.
وقوله: {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} أي: ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك، قال الله تعالى: {لَوْ أَنزلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته، لما وصلوا إلى ذلك؛ لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله؛ لأن السماء ملئت حرسًا شديدًا وشهبا في مُدّة إنزال القرآن على رسوله، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه، لئلا يشتبه الأمر. وهذا من رحمة الله بعباده، وحفظه لشرعه، وتأييده لكتابه ولرسوله؛ ولهذا قال: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}، كما قال تعالى مخبرًا عن الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا * وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 8- 10].

.تفسير الآيات (213- 220):

{فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)}.
يقول تعالى آمرًا بعبادته وحده لا شريك له، ومخبرًا أنّ مَنْ أشرك به عذبه.
ثم قال تعالى آمرًا لرسوله، صلوات الله وسلامه عليه أن ينذر عشيرته الأقربين، أي: الأدنين إليه، وأنه لا يُخَلِّص أحدًا منهم إلا إيمانهُ بربه عز وجل، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين. ومن عصاه من خلق الله كائنًا مَنْ كان فليتبرأ منه؛ ولهذا قال: {. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}. وهذه النِّذارة الخاصة لا تنافي العامة، بل هي فرد من أجزائها، كما قال: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6]، وقال: {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7]، وقال: {وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51]، وقال: {لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97]، وقال: {لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، كما قال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} [هود: 17].
وفي صحيح مسلم: «والذي نفسي بيده، لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار».
وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة، فلنذكرها:
الحديث الأول:
قال الإمام أحمد، رحمه الله: حدثنا عبد الله بن نُمَيْر، عن الأعمش، عن عمرو بن مُرَّة، عن سعيد بن جُبَير، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله، عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}، أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه، ثم نادى: «يا صباحاه». فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، يا بني فهر، يا بني لؤي، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلا بسفح هذا الجبل، تريد أن تغير عليكم، صدقتموني؟». قالوا: نعم. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم، أما دعوتنا إلا لهذا؟ وأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1].
ورواه البخاري ومسلم والنسائي والترمذي، من طرق، عن الأعمش، به.
الحديث الثاني:
قال الإمام أحمد: حدثنا وكيع، حدثنا هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «يا فاطمة ابنة محمد، يا صفية ابنة عبد المطلب، يا بني عبد المطلب، لا أملك لكم من الله شيئا، سلوني من مالي ما شئتم». انفرد بإخراجه مسلم.
الحديث الثالث:
قال أحمد: حدثنا معاوية بن عمرو، حدثنا زائدة، حدثنا عبد الملك بن عُمَير، عن موسى بن طلحة، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}، دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشا، فعمَّ وخصَّ، فقال: «يا معشر قريش، أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني كعب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني عبد مناف، أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار. يا معشر بني عبد المطلب، أنقذوا أنفسكم من النار. يا فاطمة بنت محمد، أنقذي نفسك من النار، فإني- والله- ما أملك لكم من الله شيئا، إلا أن لكم رَحمًا سأبُلها بِبلالها».
ورواه مسلم والترمذي، من حديث عبد الملك بن عمير، به.
وقال الترمذي: غريب من هذا الوجه.
ورواه النسائي من حديث موسى بن طلحة مرسلا لم يذكر فيه أبا هريرة. والموصول هو الصحيح. وأخرجاه في الصحيحين من حديث الزهري، عن سعيد بن المسيب، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة.
وقال الإمام أحمد: حدثنا يزيد، حدثنا محمد- يعني ابن إسحاق- عن أبي الزنَاد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، اشتروا أنفسكم من الله. يا صفية عمة رسول الله، ويا فاطمة بنت رسول الله، اشتريا أنفسكما من الله، لا أُغني عنكما من الله شيئًا، سلاني من مالي ما شئتما».
تفرد به من هذا الوجه. وتفرد به أيضا، عن معاوية، عن زائدة، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه.
ورواه أيضًا عن حسن، ثنا ابن لَهِيعة، عن الأعرج: سمعت أبا هريرة مرفوعا.
وقال أبو يعلى: حدثنا سُوَيد بن سَعيد، حدثنا ضِمَام بن إسماعيل، عن موسى بن وَرْدَان، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: «يا بني قُصَي، يا بني هَاشم، يا بني عبد مناف. أنا النذير والموت المغير. والساعة الموعد».
الحديث الرابع:
قال أحمد: حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا التيمي، عن أبي عثمان، عن قَبِيصة بن مُخَارق وزُهَير بن عمرو قالا لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} صَعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رَضْمَةً من جبل على أعلاها حجر، فجعل ينادي: «يا بني عبد مناف، إنما أنا نذير، إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدو، فذهب يربأ أهله، يخشى أن يسبقوه، فجعل ينادي ويهتف: يا صباحاه».
ورواه مسلم والنسائي، من حديث سليمان بن طِرْخان التيمي، عن أبي عثمان عبد الرحمن بن مُل النَّهْديّ، عن قَبِيصة وزُهيَر بن عَمْرو الهلالي، به.
الحديث الخامس:
قال الإمام أحمد: حدثنا أسود بن عامر، حدثنا شَرِيك عن الأعمش، عن المْنهَال، عن عباد بن عبد الله الأسدي، عن علي، رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ} جمع النبي صلى الله عليه وسلم من أهل بيته، فاجتمع ثلاثون، فأكلوا وشربوا قال: وقال لهم: «من يَضْمَنُ عَني ديني ومواعيدي، ويكون معي في الجنة، ويكون خليفتي في أهلي؟». فقال رجل- لم يسمه شريك- يا رسول الله، أنت كنت بحرًا من يقوم بهذا؟ قال: ثم قال الآخر، قال: فعرض ذلك على أهل بيته، فقال عَليٌ: أنا.
طريق أخرى بأبسط من هذا السياق: قال أحمد: حدثنا عفان، حدثنا أبو عَوَانة، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي صادق، عن ربيعة بن ناجذ، عن علي، رضي الله عنه، قال: جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم- أو دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم- بني عبد المطلب، وهم رَهْطٌ، كلهم يأكل الجذعة ويشرب الفّرَق- قال: وصنع لهم مدًا من طعام فأكلوا حتى شبعوا- قال: وبقي الطعام كما هو كأنه لم يمس. ثم دعا بغُمَرٍ فشربوا حتى رووا، وبقي الشراب كأنه لم يمس- أولم يشرب- وقال: «يا بني عبد المطلب، إني بعثت إليكم خاصة وإلى الناس عامة، وقد رأيتم من هذه الآية ما رأيتم، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي وصاحبي؟». قال: فلم يقم إليه أحد. قال: فقمتُ إليه- وكنت أصغر القوم- قال: فقال: «اجلس». ثم قال ثلاث مرات، كل ذلك أقوم إليه فيقول لي: «اجلس». حتى كان في الثالثة ضرب بيده على يدي.
طريق أخرى أغرب وأبسط من هذا السياق بزيادات أخر: قال الحافظ أبو بكر البيهقي في دلائل النبوة: أخبرنا محمد بن عبد الله الحافظ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يُونُس بن بُكَيْر، عن محمد بن إسحاق قال: فحدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل- واستكتمني اسمه- عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرفت أنّي إن بادأتُ بها قومِي، رأيت منهم ما أكره، فَصَمَتُّ. فجاءني جبريل، عليه السلام، فقال: يا محمد، إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك ربك». قال علي، رضي الله عنه: فدعاني فقال: «يا علي، إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، فعرفت أني إن بادأتهم بذلك رأيت منهم ما أكره، فَصَمت عن ذلك، ثم جاءني جبريل فقال: يا محمد، إن لم تفعل ما أمرت به عذبك ربك. فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام، وأعدّ لنا عُسَّ لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب». ففعلتُ فاجتمعوا له، وهم يومئذ أربعون رجلا يزيدون رجلا أو ينقصون رجلا. فيهم أعمامه: أبو طالب، وحمزة، والعباس، وأبو لهب الكافر الخبيث. فقدّمت إليهم تلك الجَفْنَةَ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها حِذْيَة فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها، وقال: «كلوا بسم الله». فأكل القومُ حتى نَهلوا عنه ما يرى إلا آثار أصابعهم، والله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسقهم يا علي». فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نَهِلُوا جميعًا، وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم، بَدَره أبو لهب إلى الكلام فقال: لَهَدّ ما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان الغدُ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام والشراب؛ فإن هذا الرجلّ قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم». ففعلت، ثم جمعتهم له، فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس، فأكلوا حتى نَهِلُوا عنه، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسقهم يا علي». فجئت بذلك القَعب فشربوا منه حتى نهلوا جميعًا. وايم الله إن كان الرجل منهم ليشرب مثله. فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكلمهم بَدَره أبو لهب بالكلام فقال: لَهَدَّ ما سحركم صاحبكم. فتفرقوا ولم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما كان الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا علي، عُدْ لنا بمثل الذي كنت صنعتَ لنا بالأمس من الطعام والشراب؛ فإن هذا الرجل قد بَدَرني إلى ما سمعتَ قبل أن أكلم القوم». ففعلت، ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم كما صنع بالأمس، فأكلوا حتى نهلوا عنه، ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا عنه، وايم الله إن كان الرجل منهم ليأكل مثلها ويشرب مثلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بني عبد المطلب، إني- والله- ما أعلم شابًا من العرب جاء قومه بأفضل مما جئتكم به، إني قد جئتكم بأمر الدنيا والآخرة».
قال أحمد بن عبد الجبار: بلغني أن ابن إسحاق إنما سمعه من عبد الغفار بن القاسم أبي مريم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث.
وقد رواه أبو جعفر بن جرير، عن ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن عباس، عن علي بن أبي طالب، فذكر مثله، وزاد بعد قوله: «إني جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي، وكذا وكذا؟» قال: فأحجم القوم عنها جميعًا، وقلت- وإني لأحدثهم سنًا، وأرمصُهم عينا، وأعظمهم بطنا، وأحمشهم ساقا. أنا يا نبي الله، أكون وزيرك عليه، فأخذ يَرْقُبُني ثم قال: «إن هذا أخي، وكذا وكذا، فاسمعوا له وأطيعوا». قال: فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع.
تفرد بهذا السياق عبد الغفار بن القاسم أبي مريم، وهو متروك كذاب شيعي، اتهمه علي بن المديني وغيره بوضع الحديث، وضعّفه الأئمة رحمهم الله.
طريق أخرى: قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا الحسين بن عيسى بن مَيْسَرة الحارثي، حدثنا عبد الله بن عبد القدوس، عن الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن عبد الله بن الحارث قال: قال علي رضي الله عنه: لما نزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام وإناء لبنا». قال: ففعلت، ثم قال: «ادع بني هاشم». قال: فدعوتهم وإنهم يومئذ لأربعون غير رجل- أو: أربعون ورجل- قال: وفيهم عشرة كلهم يأكل الجذَعَة بإدامها. قال: فلما أتوا بالقصعة أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذرْوَتها ثم قال: «كلوا»، فأكلوا حتى شبعوا، وهي على هيئتها لم يرزؤوا منها إلا يسيرًا، قال: ثم أتيتهم بالإناء فشربوا حتى رَوُوا. قال: وفَضَل فَضْلٌ، فلما فرغوا أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلم، فبدرُوه الكلام، فقالوا: ما رأينا كاليوم في السحر. فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: «اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام». فصنعت، قال: فدعاهم، فلما أكلوا وشربوا، قال: فبدروه فقالوا مثل مقالتهم الأولى، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال لي: «اصنع لي رجل شاة بصاع من طعام». فصنعت، قال: فجمعتهم، فلما أكلوا وشربوا بَدَرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام فقال: «أيكم يقضي عني دَيني ويكون خليفتي في أهلي؟». قال: فسكتوا وسكت العباس خشية أن يحيط ذلك بماله، قال: وسكتُّ أنا لسِنّ العباس. ثم قالها مرة أخرى فسكت العباس، فلما رأيت ذلك قلت: أنا يا رسول الله. فقال: «أنت» قال: وإني يومئذ لأسوأهم هيئة، وإني لأعمش العينين، ضخم البطن، حَمْش الساقين.
فهذه طرق متعددة لهذا الحديث عن علي، رضي الله عنه. ومعنى سؤاله، عليه الصلاة والسلام لأعمامه وأولادهم أن يقضوا عنه دينه، ويخلفوه في أهله، يعني إن قتل في سبيل الله، كأنه خشي إذا قام بأعباء الإنذار أن يقتل، ولما أنزل الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، فعند ذلك أمِن.
وكان أولا يحرس حتى نزلت هذه الآية: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}. ولم يكن في بني هاشم إذ ذاك أشد إيمانا وإيقانا وتصديقا لرسول الله صلى الله عليه وسلم من علي، رضي الله عنه؛ ولهذا بدرهم إلى التزام ما طلب منهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان بعد هذا- والله أعلم- دعاؤه الناس جَهرًة على الصفا، وإنذاره لبطون قريش عموما وخصوصا، حتى سَمّى مَنْ سَمَّى من أعمامه وعماته وبناته، لينبه بالأدنى على الأعلى، أي: إنما أنا نذير، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة عبد الواحد الدمشقي- غير منسوب- من طريق عمرو بن سَمُرَةَ، عن محمد بن سُوقَةَ، عن عبد الواحد الدمشقي قال: رأيت أبا الدرداء، رضي الله عنه، يحدث الناس ويفتيهم، وولده إلى جنبه، وأهل بيته جلوس في جانب المسجد يتحدثون، فقيل له: ما بال الناس يرغبون فيما عندك من العلم، وأهل بيتك جلوس لاهين؟ فقال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أزهد الناس في الدنيا الأنبياء، وأشدهم عليهم الأقربون». وذلك فيما أنزل الله، عز وجل: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ}، ثم قال: «إن أزهد الناس في العالم أهله حتى يفارقهم». ولهذا قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ. وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ}.
وقوله: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي: في جميع أمورك؛ فإنه مؤيدك وناصرك وحافظك ومظفرك ومُعْلٍ كلمتك.
وقوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي: هو معتن بك، كما قال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].
قال ابن عباس: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} يعني: إلى الصلاة.
وقال عكرمة: يرى قيامه وركوعه وسجوده.
وقال الحسن: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ}: إذا صليت وحدك.
وقال الضحاك: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} أي: من فراشك أو مجلسك.
وقال قتادة: {الَّذِي يَرَاكَ}: قائما وجالسا وعلى حالاتك.
وقوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ}: قال قتادة: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ. وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} قال: في الصلاة، يراك وحدك ويراك في الجَمْع. وهذا قول عكرمة، وعطاء الخراساني، والحسن البصري.
وقال مجاهد: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى مَنْ خلفه كما يرى مَنْ أمامه؛ ويشهد لهذا ما صح في الحديث: «سَوّوا صفوفكم؛ فإني أراكم من وراء ظهري».
وروى البزار وابن أبي حاتم، من طريقين، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي، حتى أخرجه نبيا.
وقوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي: السميع لأقوال عباده، العليم بحركاتهم وسكناتهم، كما قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الآية. [يونس: 61].